في كتاب "لا براءة العالم" يقول الفيلسوف سلافوي جيجيك "إن إنشاء إسرائيل دولة يهودية وضع نهاية لليهودية كدين، وهو يناقض التسامح ويعني كره الآخرين والتمسّك بعنصرية خالصة". والمؤرّخ اليهودي طوني جوت يرى "أن إسرائيل مغالطة تاريخية، دولة من زمن مضى". وفي استعادة عنوان جيجيك، فإنّ أوضح ما يؤكّد "لا براءة العالم" هو أن العالم غرباً وشرقاً وقف مع قيام إسرائيل وضد إزالتها، لكنّ بعضه يدعم قيام دولة فلسطينية على أساس "حلّ الدولتين". وما فعله العرب قبل قيام إسرائيل وقرار التقسيم هو مواجهة العالم لردّ الظلم عن الفلسطينيين والخطر عن العالم العربي. لكن نحو مئة عام من المواجهة انتهت إلى معاهدة سلام واتفاقات أبراهام مع إسرائيل من دون القدرة على مساعدة غزة التي تعرّضت ولا تزال لحرب إبادة.

ومن هنا، أخذت الجمهورية الإسلامية في إيران الدور موحية أنّ ما لم تستطعه المرحلة العربية تتمكن المرحلة الإسلامية من تحقيقه مهما طال الزمن. وهي أسّست فصائل مذهبية أيديولوجية مسلّحة في العراق وسوريا ولبنان ودعمت الحوثيين في اليمن و "حماس و الجهاد الإسلامي" في غزة. لكنّ قتال إسرائيل ليس المهمة الوحيدة لفصائل "المقاومة الإسلامية" التي من مهامها تشكيل طوق حماية لإيران ومواجهة كلّ أعدائها، وفي الطليعة أميركا، والعمل للمشروع الإقليمي الإيراني بقيادة الحرس الثوري. وبكلام آخر، فإن "المقاومة الإسلامية" اسم "كوديّ" للعمل على أكثر من جبهة ولأكثر من وظيفة ودور. والجمهورية الإسلامية تعرف، بصرف النظر عن خطابها الدائم حول إنهاء "السرطان الصهيوني" أن إزالة إسرائيل تعني إزالة أميركا والخلاف مع روسيا والصين. ولا عاقل يربط حاضر بلاده ومستقبلها بمشروع لمئة سنة، إن لم يكن مهمة مستحيلة. وليس قتال إسرائيل بتضحيات وكلفة بشرية ومادية وعمرانية سوى موسيقى تصويرية لفيلم إيران ناقص.

ذلك أنّ اللعبة تدور بعد حرب غزة ولبنان وسقوط نظام الأسد في سوريا على أذرع إيران في المنطقة. فلا الأذرع تمكّنت من حماية نفسها قبل حماية إيران، ولا الجمهورية الإسلامية حمت أذرعها. ما عاد من الممكن توريط سوريا ولبنان في حرب مدمّرة مع إسرائيل، ولا دفع العراق إلى خط الهجوم الأول، وإن بدا الحوثيون سعداء بالدور الذي يلعبونه على الرغم من الدمار اللاحق بمواقعهم. ولا فائدة من أن يتصرّف "حزب اللّه" على أساس أن "المقاومة" نوع من "كيان" خاص مرتبط جغرافياً بلبنان ومنفصل جيوسياسياً عنه، يتمّ تصنيف اللبنانيين في خانة من هم حلفاء "المقاومة" ومن هم أعداؤها وخصومها. فلا تصنيف إلّا بالقياس على لبنان والوطنية اللبنانية والعيش المشترك وتسوية الأزمات المالية والاقتصادية والاجتماعية. ولا دور للسلاح في مواجهة إسرائيل، ولو أصرّ "حزب اللّه" ومعه إيران على الاحتفاظ به في انتظار تبدّل الظروف، كأنّ التحوّلات الهائلة الحاصلة سحابة صيف. وأي دور داخلي للسلاح هو لعبة خطرة وخطيرة. فمنذ البدء قال الشيخ محمد مهدي شمس الدين إنه "ليس للشيعة اللبنانيين مشروع خاص غير مشروع الدولة". وتجارب الحرب أقنعت كلّ الطوائف بأنه لا مشروع سوى الدولة الوطنية، ولا حماية إلّا بها، ولا مواجهة للعدوان الإسرائيلي إلّا بسلاحها وقرار منها.

والوقت فات، لا فقط على ربط لبنان بالمشروع الإقليمي الإيراني بل أيضاً على المشروع في المنطقة. أمّا الأحلام، فلا أحد يستطيع الحدّ منها. وأمّا الكوابيس، فإن لبنان استحق الخروج منها إلى الواقع.

و"التاريخ هو الحكم الأخير" كما قال هيغل.