لطالما كانت السيادة السياسية حجر الزاوية في تعريف الدولة الحديثة منذ معاهدة وستفاليا (1648)، حيث ارتبطت بقدرة الدولة على الاحتكار الشرعي للقوة، والقدرة على صناعة القرار السيادي داخل حدودها، وإدارة الشأن العام عبر مؤسسات تشريعية وتنفيذية وقضائية، بالرغم من أنّ هذه الصيغة السيادية باتت تواجه تحدياً بنيوياً مع صعود نمط جديد من القوة لا يمر عبر الحدود بل عبر الخوارزميات والبيانات الذكية.

لقد أدّت الثورة الرقمية، خاصة في مجالات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة وأكثر من ذلك حمايتها، إلى نشوء ما نستطيع تسميته "بالسيادة الخوارزمية" وهي القدرة على إنتاج، وتحليل، وتوجيه تدفق البيانات، وبالتالي القدرة على تحقيق الإدراك الجيوسياسي، وإعادة صياغة قواعد النفوذ في البعد الدولي ليس على أساس القوة الصلبة، وإنما هندسة مفاعيل القوة الناعمة وفق مسارات متعددة، مما يساهم في تفعيل وتيرة القرار السياسي.

وبينما تستند السيادة السياسية التقليدية إلى التحكم في الفضاء، تستند السيادة الخوارزمية إلى التحكم في الزمن والمعلومة، بحيث لم تعد القوة تُقاس فقط بامتلاك الأرض أو الجيوش، بل بامتلاك قدرة "الفهم الخوارزمي العميق" ومن ثم القدرة على التأثير.

ووفق هذه المعادلة، فإنَّ الدولة العصرية تحتاج إلى تكامل بين السيادة السياسية التي تحفظ الإطار المؤسسي، والسيادة الخوارزمية التي تمكّن صانع القرار من التحكم في تدفق المعلومات والاستفادة منها لتحقيق سرعة اتخاذ القرار. الدول التي تمتلك هذا التكامل تضمن موقعاً فاعلاً في هندسة العالم الجديد، بينما تبقى الدول التي تفتقر للسيادة الخوارزمية تابعة معرفياً وقاصرة عن مواكبة التحوّل العالمي.

من هنا، نستطيع أن نخلص إلى نتيجة مفادها أنَّ تصنيف الدولة التي تقود وفق السياقات التقليدية كان يخضع لمعيار توازن القوى، والحاكم لها هو معايير الوزن السكاني، والرمز التاريخي، والقوة العسكرية، وهي معايير تؤخذ في الاعتبار مجتمعة وغير متفرقة، غير أن التحول التكنولوجي الراهن المدفوع بالثورة الخوارزمية، يُعيد تعريف موازين القوة. إضافة إلى المعايير السابقة، دخل معطى جديد، وهو الدولة الأقدر على التحكم في الزمن المعلوماتي، وصناعة بنيتها الخوارزمية المستقلة، والقادرة على تشكيل الفضاء العام عبر أدوات الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة، إلى جانب القوة الاقتصادية ومنظومة القوة المتعددة الأخرى.

بهذا المعنى، تبرز "السيادة الخوارزمية" كمتغيّر حاسم في إعادة تشكيل توازن القوى داخل العالم العربي.

وعلى ضوء ذلك، أرى أن السعودية تمثل القوة الصاعدة في فضاء الوطن العربي، والتي استطاعت مراكمة أوراق القوة المتعددة وفق مفهوم أنماط القوة الشاملة.

فمنذ انطلاقة "رؤية السعودية 2030" دخلت المملكة مرحلة انتقالية نوعية لا تقتصر على تحديث الاقتصاد، بل تشمل إعادة تشكيل مفهوم الدولة وفق مقتضيات السيادة الرقمية، حيث يتجلى هذا التحوّل في بناء مؤسسات حيوية مثل:

- الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا)، التي تضطلع بتطوير قدرات الذكاء الاصطناعي على المستوى الوطني.

- الاستراتيجية الوطنية للبيانات والذكاء الاصطناعي (NSDAI) التي تضع أطراً شاملة لامتلاك البيانات ومعالجتها، وترسيخ مكانة المملكة العربية السعودية كواحدة من الدول الرائدة عالمياً في مجال الذكاء الاصطناعي.

- مشاريع المدن الذكية مثل نيوم، التي تُجسّد نموذج الدولة المندمجة مع الخوارزمية على مستوى البنية والسياسة والإدارة.

إنَّ تركيز السعودية على إنتاج أدوات التحليل الخوارزمي، والتحكم في بيئة البيانات، وتوطين الحوسبة السحابية، لا يعكس فقط توجهاً تنموياً، بل إعادة تعريف الدولة وفق المفهوم الحديث من السيادة التقليدية إلى السيادة الخوارزمية.

في المقابل، نجد نموذج الدولة التي، حتى وإن كانت تمتلك عناصر قوة وفق المفهوم القديم لتصنيف القوة، إلا أنها في وضعٍ أكثر هشاشة أمام تحديات "السيادة الخوارزمية". فالبنية التحتية التكنولوجية تظل محدودة، والسياسات الرقمية تفتقر إلى الاتساق الاستراتيجي الفعال.