القوّةُ معطًى موضوعي خارجيّ يتمتّع بوجودٍ مستقل عن إدراكاتنا وليس مجرّد فكرةٍ يختلقها الذّهن. إنّها تلك الحقيقة التي نكتشف تجلّياتها في العالم الفيزيائي كما في العالم الحيواني والإنساني: إمّا بالملاحظة المجرّدة أو العيانيّة أو بالدّرس العلميّ والمختبريّ أو بتحليل العلاقات والموازين والموارد في التّاريخ. صحيح أنّه لا يسعنا، دائماً، أن نستبده القوّة ونحسبها معطًى قَبْلي الإدراك، ولكن في اللّحظة التي تنتقل فيها القوّة من الواقع إلى الذّهن فتصير فكرةً يحملها النّاس، يكون الوعيُ قد سلَّم بمعطًى موضوعيّ فَرَض نفسه عليه ليبدأ بعدها، في محاولة قياس حجم القوّة في الشّيء الذي يُضمِرها ومدى آثار فعْلِها في موضوعات خارجة عنها. هكذا، أيضاً، تخرج تلك الفكرة الأوليّة عن القوّة من العموم والإبهام إلى نطاقِ تبيُّنٍ متدرِّجٍ تتفاوت درجاتُ صفائه بمقدار تفاوُتِ درجات فاعليّة الأدوات الإدراكيّة المتوسَّلة في التّبيُّن.

يمكن تعريف القوّة بأنّها مفعولُ فعْلٍ ذو أثرٍ على موضوعٍ مّا يقع عليه الفعل، وهو المفعول الذي يتولّد من كلّ طاقةٍ ينطوي عليها شيءٌ ما من الأشياء أو موجودٌ من موجودات الطّبيعة والوجودِ الحيويّ.

يُستفادُ من هذا أنّ القوّة لا تُدْرَك إلاّ في نطاق نِسبها المتحقّقة في الواقع الماديّ لا في نطاقٍ مفهومٍ لها تجريديّ. لذلك كانتِ العلوم - بما تملكه من أدواتٍ للقياس دقيقةٍ - الأطرَ المعرفيّة الأنسبَ لتحليل ظاهرة القوّة في الأشياء.

وتدُلُّنا نتائجُ البحث العلميّ في موضوع القوّة، في تجلّيّاتٍ منها مختلفة في الطّبيعة كما في التّاريخ، على أنّ مفهوم القوّة مفهومٌ نسبيّ، ذلك أنّ ما يكون من الأجسام موضوعَ تأثيرٍ من قوّةٍ أكبر منه، يكون - هو نفسُه - جسماً فاعلاً في غيره يسلّط قوّتَه عليه وهكذا دواليك من مراتبَ أعلى إلى مراتبَ أسفل. أليس هذا ما تُظهِرنا عليه العلاقاتُ الميكانيكيّة بين الأجسام وما يتولّد منها من حركةٍ هي نتيجةُ أثرِ جسمٍ في آخر، بل أليس ذلك ما نلحظُه في انتقالات القوّة من فاعلٍ أوّل إلى فاعلين ثانين في المجتمع والتّاريخ؟

قد تكون القوّةُ معطًى ناجزاً مكتملاً بحيث لا ينمو من داخله أو ينضاف إليه موردٌ ذاتيّ، بل لا يحصل له شيءٌ من ذلك إلاّ إذا كان خارجاً عنه وبأثرٍ من ذلك العنصر الخارجيّ. تبدو القوّة، في هذه الحال، خامدةَ التّراكم والنّموّ على الرّغم من أنّها فاعلة. يحدث هذا في العالم الطّبيعيّ غير العضويّ وداخل أجسامه غير الحيّة، أمّا في العالم الطّبيعيّ العضويّ الحيويّ - عالم الكائنات الحيّة - فالأمر يختلف، إذ تبدو القوّةُ كائناً ماديّاً ينمو بالتّزامن مع الكائن الحيّ ومن خلاله فتتراكم مواردُها وتزيد تأثيراً في الأشياء.

وإذْ ينمو معطى القوّة، في عالم الأحياء، ينمو وعينا به وتغتني فكرتُنا عن القوّة بالتّبِعة مثلما يغتني معنى نسبيّتها في الوقت عينه. ولقد يكون الانتقالُ من العالم الحيوانيّ إلى العالم الإنسانيّ، مثلاً، ثمّ من الوجود الإنسانيّ إلى التّاريخ فالحضارة مثالاً لسيرورة النّموّ التي تقطعها القوّة في مسارها الإنسانيّ. على أنّ المنعطف الأعظم في مفهوم القوّة هو ذاك الذي يتبدّى عند مقارنة فواعل القوّة في العالم الطّبيعيّ والحيوانيّ ونظيرتها في العالم الإنسانيّ والتّاريخ، ففيما القوّةُ في الطّبيعة والغابة من طبيعةٍ ماديّة صرف (يمكننا أن نسمّيها كثافة الطّاقة الماديّة في كلّ جسم)، نجدها في المجتمع والتّاريخ من مصدرٍ غيرِ ماديّ: العقل.

ولن يختلف اثنان في أنّ الأعمّ الأغلب من الفتوحات التّاريخيّة للأمم والحضارات إنّما كان ثمرة الفعل الخلاّق للعقل، أمّا إنِ استُدْرِك على هذا بالقول إنّ السّلاح أيضاً كان في جملة الفواعل التي أنجبت تلك الفتوحات، جاز - حينها- استدراكٌ على الاستدراك يقول إنّ قوّة السّلاح إنّما هي من قوّة العقل الذي اهتدى إلى اختراعه وتغيير موازين القوى بين الأمم به.

على أنّ الفارق كبيرٌ جدّاً بين الاعتراف بموضوعيّة القوّة، أو بوجودها في الواقع الموضوعيّ، من جهة، وعمليّة الاستبطان الذّاتيّ للقوّة التي ينشأ منها شعورٌ- وأحياناً اعتقادٌ - بحيازة القوّة أو بالحاجة إلى فائضها منظوراً إليه من حيث هو المورد الرّئيس لتحقيق السّيطرة على الأشياء والأوضاع من جهة ثانية.

نعم، ما من شكٍّ في أنّ الاستبطان الذّاتيّ للقوّة لا يكون نسيجُه على منوالٍ واحد، فهو قد يفيد في تنمية الشّعور بالثّقة بالنّفس وشحذ الهمّة وتصنيع الدّفاعات الذّاتيّة ضدّ أيّ فاعلٍ قد ينال من الحقّ أو من الكرامة أو من الحياة، وهذا - قطعاً - وجْهٌ إيجابيّ لاستبطان مبدأ القوّة، لكنّه قد يقود - من وجْهٍ سلبيّ - إلى تحويل الشّعور بالقوّة إلى معتقدٍ وإدمان فكرة القوّة إلى حدودٍ مرَضيّة، مع ما يقترن بذلك من تنميةٍ لفكرة العدوان وشرعيّة توسُّله في المجتمع الوطنيّ والكونيّ. والحقّ أنّ الكثير الكثير من ظواهر النّزاعات والحروب، والجرائم المرتَكَبَة ضدّ الإنسانيّة، وعلميّات «التّطهير» العرقيّ والإبادات الجماعيّة... إنّما وُلِدت من أحشاء عقيدة القوّة.